أضافت المحكمة الجنائية الدولية فى الايام الماضية تهمة الابادة الجماعية الى قائمة الاتهامات التى سبق و ان وجهتها للرئيس السوداني عمر البشير.و كانت نفس المحكمة رفضت توجيه هذا الاتهام، بعد ان تقدم بة اليها المدعي العام للمحكمة (اوكامبو )،غير انها عادت الان لقبول توجيه الاتهام للبشير،بما اثار تساؤلات عن ذاك الجديد الذي جعل المحكمة تقبل بما سبق ان رفضته، خاصة ان منطقة الصراع التى يجري بسببها الصاق تلك التهم بالرئيس البشير، تشهد في الاونة الاخيرة، انحسارا وتضائلا لكل النشاطات القتالية،بل ان الحوار السياسي بين الفرقاء المتقاتلين، قد قطع شوطا كبيرا، ونتج عنه وقف اطلاق النار، بما سمح باجراء انتخابات برلمانية ورئاسية تحت الرقابة الدولية.
والسؤال الذى يطرح نفسه
ما الجديد الذي دفع المحكمة لاضافة تلك "التهمة "؟ يبدو السؤال مهما بالنظر للتغيير الحاصل في مواقفها، غير ان السؤال لا يحمل معنى جديا علي الصعيد القانوني ولا بشأن الوقائع في تلك القضية من بدايتها حتي نهايتها، اذ ما يجرى في تلك المحاكمة، هو امر بعيد كل البعد عن فرز و تمحيص الوقائع، بنفس قدر بعده عن الفحص القانونى وتطبيق قواعد العدالة، فالمحكمة الجنائية الدولية، ليست الا احد الادوات الغربية –مثلها مثل المنظمات و الهيئات ذات الطابع الدولي- التي يجري استخدامها لتحقيق المصالح و السياسات و الاهداف الاستعمارية الغربية ضد الدول الاخري.
اذ كان التساؤل – الشهير – الكاشف لدور تلك المحكمة، هو انها لم تجرؤ علي ملاحقة قادة الكيان الصهيوني، الذين ارتكبوا الاف الجرائم الوحشية الموتقة ضد الشعب الفلسطينى، فإن السؤال المباشر والصحيح الآن هو : لم اضافت المحكمة في هذا التوقيت، هذا الاتهام الجديد بحق الرئيس البشير؟ وكيف يحقق هذا الاتهام مصالحها؟
موقع الرئيس
لمنصب الرئيس دور محوري في النظام السياسى السوداني، الذي هو الاقرب الي النظام الرئاسي الامريكى، اذ لا يوجد في السودان "رئيس وزراء"، ومن ثم فالرئيس وموقعه هو اساس القرار التنفيذى فى الدولة. وهو ما يعنى ان الهجوم علي الرئيس، بمثابة الهجوم علي المركز والشخصية المحورية في النظام السياسي وفي بناء الدولة في السودان.
وما زاد من اهمية الرئيس البشير في النظام السياسي السودانى، انه اصبح بعد اتفاق نيفاشا، رئيسا يحمل شرعية من "الامم المتحدة" بفعل تثبيت هذا الاتفاق، البشير رئيسا، وكذا نفس الامر بالنسبة للحركة الانفصالية المتمردة في الجنوب، التى اصبح رئيسها – جارنج ثم سيلفا كير – نائبا للرئيس البشير، وفق اعتراف دولى.
هنا، و في ظل تلك الاوضاع – مع عدم التشكيك في شرعية وجود البشير في السلطة قبل اتفاق نيفاشا - اصبحت شرعية الرئيس علي نحو او اخر،مستمدا من الاعتراف الدولي بالاتفاقية، ومن اعتراف الجنوبين به رئيسا، ولاول مرة منذ وصوله الي السلطة.
لكن مصدر هذه الشرعية، قد تغير بعد اجراء الانتخابات الرئاسية و البرلمانية الاخيرة، اذ صارت شرعية الرئيس مستمدة من الشعب السوداني وفق انتخابات معترف بها من قبل هيئات ولجان المراقبة الغربية، لا من الانقلاب العسكري الذي قادة في عام 1989، او من الاتفاقيات واعترف بها المتمردين والغرب كذلك.
لقد اصبح موقع الرئيس – البشير- الاكثر اهمية وحيوية، واصبحت مصادر الشرعية داخلية و خارجية، فى وقت يبدو الغرب قاب قوسين او ادني من تقسيم السودان، فهل يترك الرئيس كامل الشرعية و المشروعية في مواجهة عملية التقسيم، وهو الذي يرأس كل السودانيين شماليين و جنوبيين، او هو الرجل الاهم في النظام السياسي.
لذا كان التحرك ضد الرئيس البشير من خلال المحكمة الجنائية سابقا و تاليا لكل تلك الاوضاع، والان يجري حصار الرئيس وموقعه في النظام السياسي السودانى، باضافة اتهام جديد،وسيجري تفعيل الاتهامات كلها (السابقة والحالية) في الفترة القادمة، اذا وصلت الاوضاع فى السودان حد القرار النهائى.
حصار الرئيس
يبدو من نافلة القول، التأكيد علي ان الغرب يبذل كل جهوده الان، ليفصل جنوب السودان عن شماله، وهو ما لا يمكن ان يتم الا بتوقع البشير علي اجراء الاستفتاء في موعده، والا كانت الحرب والصراع المسلح، الذى لا يعرف له نهاية.
و قد كانت الموافقة الغربية علي اعتماد نتائج الانتخابات الرئاسية و البرلمانبة راجعة بالاساس الي اهمية وضرورة اكساب الرئيس و نظام الحكم، المشروعية لاجل ان يجري الاستفتاء،وفق صيغ قانونية،تقطع الطريق علي تحركات مضادة لاجراء الاستفتاء، وترفض انفصال الجنوب.
ولكن الغرب لا يدير الصراعات "بالاتفاقيات" و انما يديرها بالضغوط و بتشكيل شبكات من التحركات و الخطوات و الممارسات التي تؤدى الي اجبار الخصم على تحقيق الاهداف الغربية شاء ام ابي.و المعني ان الغرب اذا "اتفق"او وقع "اتفاقا" مع أي طرف، هو يظل يضغط -وربما هو لصيق ضغوطه -حتي لا يفلت الطرف موقع الاتفاق،عبر التحول من حالة الضعف التي ادت به للتوقيع عليه، الي حالة القوة التي تمكنه من عدم تنفيذ الاتفاقات، اذ كل الاتفاقات الموقعة هي اتفاقات" مؤقتة" و مشروطة بتوازن القوي التي اجبرت الطرف الاخر، علي التوقيع عليها.
وفي ضوء ذلك ، لم يتوقف الغرب –خاصة الولايات المتحدة و بريطانيا –عن ممارسة الضغوط علي الحكم في السودان، وبشكل خاص الرئيس، رغم توقيع الاتفاقيات. لم يكتف الغرب بالضمانات الواردة في الاتفاقيات التي تكفل انفاذها
بل سعي وبشكل حاسم الي حصار الرئيس البشير بصفة دائمة وبشكل تصاعدي،وباستخدام الادوات التي تضعف شرعيته و مكانته، وكلما كان الرئيس وموقع الرئاسة يحصل علي بعض عوامل وملامح القوة،كانت المنظمات و الهيئات الغربية تسارع الي اجهاض هذا التحسن، بتصعيد الضغوط المقابلة وبتشديد اجراءات الحصار، حتي يظل "الخصم" في حالة "الانصياع" للاتفاقيات. الغرب يدرك انه يجبر الاخرين تحت الضغط علي توقيع الاتفاقيات كرها،ولذا يظل مواصلا الضغوط حتي تحقيق اهدافه من عقد تلك الاتفاقات، ومن بعد تتواصل الضغوط واعمال الحصار والتهديد بالمحاكمات بل والموت، لتحقيق اهداف اخرى.
المساومة
وضمن هذا الاطار، يجري الآن اضافة تهمة جديدة ضد الرئيس البشير امام محكمة الجنايات الدولية، اذ ان المخطط الغربي يدرك ان لحظة اتخاذ القرارات الحاسمة في اتفاقية نيفاشا، قد ان اوانها،وان تقسيم الدولة و المجتمع ليس بالامر الهين- فالقرار صعب والضغوط يجب ان تكون اصعب-كما هو يري الرئيس البشير يتحرك باتجاه الحفاظ علي وحدة السودان، كما ثمة تخوف غربي الان، هو ان تودي الانقسامات في الجنوب والغضب الحاصل في الشمال من احتمالات تقسيم السودان، الي ايجاد ظروف جديدة قد تمنع اتفاق نيفاشا، او انفصال الجنوب، اذا ارتبكت
أوراق الخطط الجارية.
و لذلك بدات الحملة من جديد ضد الرئيس البشير،مضاف اليها تهمة الابادة الجماعية، ليكون الرئيس امام خيار من اثنين، اما مواصلة الطريق حتي انفصال الجنوب، واما المطاردة علي اساس تهمة تفضي الي حكم بالاعدام عليه.
لكن كل ذلك لا يغلق باب المفاوضات والمساومات بل هو يعنى فتح تلك الابواب، في لحظة ما، اذ سيجري التقدم للسودان بعرض واضح،هو انهاء تلك المحاكمة و اسقاط تلك الاتهامات حال تمرير انفصال الجنوب، وذلك امر جري التحدث عنه صراحة في بعض وسائل الاعلام الغربية،علي سبيل جس النبض لاحتمالات موافقة الحاكم في السودان علي مثل هذه التسوية، في وقت لاحق.
غير ان الغرب لايدرك عمق تعقيدات المشكلات في مثل تلك المجتمعات، و يبدو انه يعيش حالة اخري من حالات غرور القوة و التصور بان احكام الخطط و التدبير و امتلاك عناصر الضغط كفيل بالسير عكس تيار ما هو مستقر في الحياة،و هو ذات جوهر الخطا الذي وقع الغرب فيه حين تصور ان القوة العسكرية التي يمتلكها كافية لتحقيق اهدافه في افغانستان و العراق، فسقط في هوة بئر لا يعرف كيف الخروج منه بأقل قدر من الخسائر. جنوب السودان، لم يعد هو جنوب السودان "القديم"،وشمال السودان لم يعد هو شمال السودان "القديم".
الكل يعلم
في مثل تلك الاوضاع لا يكون الطرف الاخر صامتا، لا يفتش عن اوراق للضغط المضاد، كما ان لغة المصالح تلعب دورها هي الاخري فى التاثير على مواقف قوى دولية اخرى،اذ لم تعد هناك قوة دولية واحدة تهيمن علي العالم –وذلك احد اسباب تعجيل الغرب بحسم الكثير من الملفات قبل ان تاتى لحظة يفقد سيطرته الكاملة على القرار الدولى -ومن قبل و من بعد، فان العرب و المسلمين قد ادركوا ان الغرب في جوهر عقيدنة السياسة، لا يترك "من كان خصما له ابدا" حتي لو عقد معة الف اتفاق. او لم يقتل الصهاينة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات شر قتلة و هو من وقع معهم برعاية امريكية تامة فى اتفاقات اوسلوا؟ !.لم ينسوا له رفع السلاح ضدهم من قبل.
ولذلك يمكن القول، بان الامور لن تنتهي عند هذا الحد،حتي لو سارت عملية او جريمة تقسيم السودان بعض الخطوات، اذ الوطن لا ينحصر في فرد، كما ان الرجل الذي صمد بالسودان في مواجهة كل ما جري من ضغوط و حصار و مؤامرات في دارفور، لن يضعف لمجرد انه معرض لخطر شخصي.
لكن ما يجب وضعه في الاعتبار وبناء خطط المواجهة مع المحكمة الجنائية الدولية على اساسه، هو ان المحكمة ستتوسع نشاطاتها في الفترة المقبلة ضد القادة السياسيين في الحكم و المعارضة فى السودان- في الدول العربية الاسلامية -بشكل خاص، ذلك ان تلك المحكمة صارت احدي اليات التغيير او احداث الانقلابات و الاضطرابات في داخل الدول.هذه المحكمة هى احدي اليات التغيير الداخلي، مثلها مثل "الية "الفوضي البناءة و اعمال اغتيال القادة السياسيين و الدينيين،لكن وفق اشكال قانونية المظهر و الطابع.فالفوضي البناءة –يجري استخدامها عبر بناء شبكات "سياسية وجماهيرية"لدفع و تحريك الجماهير ضد النظم و القادة غير المرضي عنهم غربيا و امريكيا بشكل خاص ويتم وفق ذلك حالات من التظاهر و اثارة الفوضي و الاضطراب.واعمال اغتيال تجرى عبر استخدام طائرات غير ماهولة بدون طيار او عبر استخدام مجموعات القتل المحترفة لازاحة بعض القادة السياسيين اصحاب السمعه والصيت السياسى التوحيدى للمجتمعات، اما المحكمة الجنائية الدولية، فهي تقوم باعمال الاغتيال المعنوي و السياسى و الاعلامى، باستخدام الطرق القانونية الطابع، لاقصاء قيادات مركزية او محورية عن قيادات المجتمعات، او لانهاء دور مراكز السيطرة في النظم السياسية الرافضة للتدخلات الامريكية في شئون الدول الداخلية،و بذلك تتحول بشكل واضح-او يتضح دورها علي نحو فاضح –بانها احد ادوات التغيير للاوضاع الداخلية للدول، تحقيقا للمصالح الاستعمارية الغربية، ليصبح مجلس الامن صاحب دور اصدار القرارات بخنق الدول اقتصاديا و حصارها،وصاحب قرار الاعتداءات العسكرية، و منظمات حقوق الانسان – الغربية –صاحبة دور فى التشهير بالنظم السياسية المحافظة علي تراثها الانسانى و قيمها (الا من هو دكتاتوري الطابع من النظم )و المحكمة الجنائية الدولية صاحبة دور استخدام الاليات القانونية في شطب و ابعاد وربما قتل، القيادات السياسية التى تحتل المراكز المحورية في النظم السياسية.